لم أدر بنفسي وأنا أصرخ بجنون يلفظ كل شئ في وجهه المذهول، ألفظ اليد التي مستني في الزحام ولم تكن له، ألفظ كعب الحذاء المكسور وصديقتي التي تتلصص على حياتي معه، ألفظ مصروف البيت النافد وجرح أصابعي الحارق ، ألفظ ذلك الزحام برأسي والحياة التي اعتصرتنا واقتحمت فقاعتنا الوردية بلا حق، كان هو الآخر يصرخ بكلام كثير لابد أنه موجع، كنت أرى فمه يتحرك غاضبًا وأنا مغيبة تمامًا وسط صراخنا.
أخذت في ضرب صدره بهستريا رافضة وأنا ألعن كل شيء.. ضربات كنت أوجهها له مشفقة على ألمه منها في ذات الوقت! اعتصر ذراعيّ بقسوة وصراخه يصم أذنينا معًا وأخذ يكيل لي الضربات هو الآخر وأنا لا أشعر إلا بصدمات متتالية لا تؤلمني ومذاق صديء بفمي، وهنا اصطدمنا بالحائط وفقدنا التوازن فأدركنا أننا نسقط معًا، شعرت به يجذب جسدي بقوة إليه في منتصف السقوط وأغمضت عينىّ على تعبي المجروح وزممت شفتىّ مستسلمة لعنف الصدمة القادمة، كان يسقط معي محاولًا بذراعيه إبعادي عن الأرض القاسية التي اقتربت، صدرت عنه آه مكتومة في نفس لحظة صدمة الارتطام الأولى التي تلقاها ذراعاه بدلاً مني.
ساد الصمت دقائق وأنا مازلت على وضعي وأنفاسه المتلاحقة ساخنة على وجهي، حتى شعرت بذراعيه تتراخيا في شبه رقة عن خصري وهدأت أنفاس غضبه اللافحة لوجهي. لم أجرؤ على فتح عينيّ وظلت شفتاي مزمومتين بارتجاف حتى أحسست بأنامله تمس وجنتىّ بدغدغة أعرفها جيدًا، وشعرت بقرب وجهه الدافيء حين همس بأذني: (شفتي ،حتى في وقوعنا كنا مع بعض!) ، فابتسمت برغمي وفتحت عينيّ للمرة الأولى منذ السقوط فتلاقتا بعينيه في لحظة شفيفة، لم يمهلني وقتًا لأعتدل؛ بل جذبني بقوة إليه ودفن رأسي في صدره الغارق بالعرق إثر العراك، وحين احتوتني رائحة جسده بكيت كما لم أبك من قبل!