مقتل طبيب

منذ بضع سنوات وأنا أعلم أن عندما يستجد طارئ طبي في أسرتنا نستدعي الدكتور محمد، هو جارنا الذي لا أراه كثيرًا،إنما قد ألمح ظله أحيانًا في شرفة بيتهم، من عائلة زوج خالتي، وتربطنا بعائلته علاقة جيدة، فيأتي أبناء أخته للعب عندنا حيث تطلب ندى (عصير مانجة فريش) في الشتاء ويتمسك محمد أخوها بالريموت كي يشاهد (بثوني بثوني)،(بسيوني بسيوني يعني) حصل الدكتور محمد على الماجستير في أمراض القلب ثم تزوج وافتتح عيادته العام الماضي.

في مرة نادرة بعد انتهاء روند الجراحة أمس، أصر أصدقائي على التسكع فأخذوني من يدي وأنا على وشك تجاوز بوابة الكلية. بعدها بساعتين ألقيت نظرة على موبايلي وجدت مكالمة لم يرد عليها من ماما، عاودت الاتصال بها فردت علي أختي لتقول: الدكتور محمد مات في حادثة.
نظرت بصدمة إلى الميكروباصات التي سأستقل أحدها الآن عائدة إلى المنزل على نفس طريق الحادث.

الحمد لله الذي جعل أصدقائي يقنعوني بألا أرحل مبكرًا، فلم أحضر الطقوس الأولى للفاجعة في شارعنا وفزع محمد وندى الصغار، ووصلتْ بيتنا بعد رحيل ماما مع عائلة الدكتور إلى بلدتهم للجنازة. فأنا أكره طقوس الحزن المعلنة لدرجة أنني لا أرتدي الأسود وحيدًا ولا أزور المقابر أبدًا (ولا أعرف إن كان هذا حرامًا أم لا). طقوس المآتم تجعل الحزن الرهيف أكثر سطحية و ثقلًا.

يقول أخي بالليل: مش عايزة تعرفي الحادثة حصلت إزاي؟
فأرد صادقة: لأ مش عايزة  أعرف. فأنا أعرف مايكفيني من رعب اقتراب الموت،  منذ حرمني رائحة كعك عمتي-أمي الثانية- ودفء حضنها  وأنا في العاشرة بحادث مروع، ومنذ مقتل محمد الابن الأكبر للعائلة الفلسطينية التي تسكن شارعنا، ومنذ أصيب أبي في الحادث الذي كلفه عامًا ونصف من العمليات الجراحية والنقاهة  كي يتمكن-فحسب- من الوقوف على قدميه. كلهم بنفس الطريق.

أفكر أن الصدفة يمكن أن تكون وحدها ما يمنع وجودي في عداد الضحايا، 14 عامًا من عمري قضيتها ذهابًا وإيابًا على نفس الطريق يوميًا منذ أن كنت في الرابعة، لم يقطعها سوى سنوات الدراسة الثانوية وسنتي الجامعية الأولى. راقبت الطريق منذ أن كان غير مزدوج يمتلئ بالمطبات  والحُفر الرديئة، حتى تحسن حاله  بازدواجه بعد حادث أبي.هذا الطريق المتوقف رصفه منذ عامين بلا سبب ينتظر استكماله!


لا أعرف إن كان من حقي أن أفكر في مخطئ أم لا، فقد استغرقت وقتًا طويلًا لأعلم نفسي ألا أرمي اللوم على الآخرين- الرذيلة التي نحترفها بشدة- لكن عقلي يأبى أن يصدق ألا يكون هناك مخطئ ما مثّل يد القدر في قتل الدكتور محمد،  الذي رحل وترك ثمار مجهود لم يجنيها بعد، قبل عيد زواجه الأول وبعد شهور من مولد طفله. كل ما أعرف أن الطريق من مدينتي إلى المنصورة لا يشبه الطرق الواسعة إلى مدن مصر الغنية التي اختبرتها، لا يشبه حتى الطرق إلى القاهرة، لكنه يشبه كل الطرق بين المدن و القرى التي لا يهتم بأسمائها سوى أهلها. وأعرف أيضًا أن شيئًا تافهًا مثل مرور (عربة كارو)  في طريق سريع يمكن أن يخطف حياتي  وأنا لم أعشها بعد.

3 comments:

Anonymous said...

تدوينة كئيبة فعلا ن لكن الطرح جيد لقضية السرعة والشوارع الي مش معبدة
><

dina said...

هذه ليست تدوينة بل واقع حقيقى
لقد رأيت كل شىء أمام عينى كشريط فيديو

Unknown said...

إنا لله وإنا إليه راجعون..
عارف الإحساس ده بالموت..
مش محتاجة تزوري المقابر.. أنا أعرف إن ثواب السير في الجنازة عظيم لأنها بتحسسنا بالموت..
المهم ا الكآبة دي تعدي سيبيها تعدي ما تمسكيش فيها