يضيّق عينيّه متشككًا أو يبتسم بحياد وأنت تتحدّث قبل أن يُطلق تعليقًا ساخرًا.. منك أو من كلامك أو من الاثنين (وربما من الحياة ذاتها). يحترف الصمت والكتمان مما يدفع ماما أحيانًا إلى أن (تشدّ في شعرها منه). هو ذاته الذي كان ينظر إلى شهادة درجاتي الشهرية ماطًا شفتيه: "الثانية.. وليه مش الأولى؟" أو: "الأولى، ومالك ناقصة في الرياضيات كدة ليه؟"
أُخرج آخر مشترياتي من الملابس فيقول:"ايه ده، أحمر؟" أو "فوشيا.. ليه؟" أو " أخضر.. هتزرّعي؟"
(تجدُر هنا الإشارة إلى أن مشترياتي الأخيرة تروق له، ربما لأن الرمادي موضة حاليًا!)
أسمع (تكة) مفتاحه في الباب كل يوم مساءً فتنتبه حواسي بإحساس طفلة منذ عشرين عامًا كانت تقفز على الأريكة صائحة: "بابا جه.. بابا جه". أنا لا أعرف أصلًا كيف أتأقلم مع غياب صوت المفتاح. في أول مرة حُرمت هذا الصوت في موعد عودته ذكرني الغياب بوهنه المكسور على فراش مستشفى بعيد فبكيت عاليًا، وكنت قد كففت عن هذا البكاء منذ طفولتي.
إ ن لم تعرفه بحق لن تُدرِك أبدًا أن هذا الصارم المتشكك الساخر بكآبة الذي نادرًا ما يعجبه شيئًا ظل عمرًا يؤدي طقوسًا دورية تتضمن قطع البلد كلها لشراء أفضل (زبادي) أو أفضل (أقلام وكراسات).. أو أفضل أي شيء نحتاجه!
وأنه يستمتع بغيظ ماما حين تقول: لا فيقول هو: نعم، فنتخابث نحن-العيال- ونعرف إلى من نلجأ حين ينتهي المصروف (في الخباثة). وأن لا مانع عنده من انتظارنا في السيارة لساعات بعد عمله وهو مرهق كي (نروّح) معًا- شيء أتقبله أنا ورضوى على سبيل " الدلع" غالبًا ويعتبره هو من بديهيات واجباته- أو حين يغيظك ويقهرك في خناقة تقسم بعدها ألا تحدّثه أبدًا أبدًا، ثم يمد يده بالعيدية صباح يوم العيد فتقع في معضلة أخلاقية عظيمة: آخد العيدية ولا ماخدهاش!
في فيلم طفولتي مشاهد مسلية، تغيب ماما في عملها يوم إجازته، فنبدأ العبث.. نحضّر إفطارًا "عظيمًا" ونخرج المكعبات والعرائس، نتهجى معًا الأبجدية ويقرأ لي قصصًا فيها عصافير وبحار وغابات وسماوات جميلة، نخرج (الأتاري) من مخبأه ويتحمل غلاسة طفلة لا تلعب سوى (سلاحف النينجا) ويضحك عليها بأن يتركها تفوز أحيانًا.
يقف للصلاة فأنظر له في شك، ثم أستكين قليلًا وأقلد حركاته، أتململ من طول الوقفة ثم أتركه يكمل الصلاة وأنصرف إلى أي شيء آخر.
عصر الجمعة يجلسني على فخذيه و يقول: " قولي ورايا.. قل أعوذ برب الناس.. ملك الناس... "، أكرر وراءه ونعيد، أكرر ونعيد.. حتى يحفظني السورة باتقان.
نخرج معًا فيشتري لي بالونات، وفي الزحام يقول لي: خليكي ماسكة في ايدي كويس. يأخذني إلى الأرجوحة.. يدفعني ببطء في البداية، أقول: كمان فيُسرع، أضحك وأصرخ: كمان.. كمان. يقول: تعبت، كفاية بقى، فأتذمر: ماليش دعوة، فيؤرجحني حتى أقول انا: كفاية.. زهقت.
أنظر إلى الدراجة الزرقاء الجديدة، اشتراها لي.. لي وحدي. فوق سطح بيتنا الواسع يقول: هعلّمك. يدفع فيختل توازني وأسقط. يدفع وأسقط، أحيانًا يقيني السقوط لكني لا أتوازن. يقول: " اوزني نفسك كويس.. ماتخافيش" ، أتوازن قليلًا ثم أسقط. يدفعني مرارًا لساعات حتى أُكمِل ذلك الخط القصير عبر أرض السطح متوازنة فأعلن انتصاري.. يمكنني قيادة درّاجة!
الآن حين تنتابه رعشة نقص السُّكر، وألتقط صفرة وجهه، أدس عسلًا يكره طعمه بين شفتيه فيقول بعندٍ: " مش واخد"، أقف أمامه بنفس "نشفان الدماغ" وأقول: لأ هتاخد. أدرك كم أشبهه في تلك الدقائق الفاصلة بين الوعي وغيابه. فأتشبث بعندي\عنده أكثر. وحين يجلس بعدها أمام التلفزيون أقول له ب(غلاسة) : "الله.. ده انت قمت يعني، الحمد لله عالسلامة". فيقول بلهجة أكثر (غلاسة) وهو يضيق عينيه: "ليه.. هو حصل حاجة، مانا كويس أهه!"
وحين يرتدي ملابس جديدة يقول: "ايه رأيك"، أمط شفتي متصنعة القرف وأقول: "يعني.. " ، فيرد فورًا: "والله مابتفهمي حاجة!"
وحين أجلس خلف مقود السيارة وهو بجواري لا يكف عن الكلام: اكسري يمين.. اوعي النقل.. بصي في المراية.. دي سواقة دي. فأضغط البنزين بقوة ترج السيارة وأقول: "على فكرة معايا رخصة!"
يأيها القادم إلى صالون بيتنا، حين يضيق عينيه بود مصطنع وهو يسألك: وبتاخد كام على كدة؟ أو حين يبتسم ابتسامة تُقلقك أكثر ما تطمئنك وهو يستمع إلى حديثك فلتعلم أنك تمر باختبار عسير جدًا، ويجدُر بك أن تحمل في روحك جزءًا منه كي تأخذ بطولة فيلم عمري القادم، فليس أفضل من بطل الفيلم الأصلي.
عِندي عندُه وغضبي غضبه و مشاغبتي مشاغبته، فكيف لا أحبه وأنا منه، يحبني على طريقته وأحبه على طريقتي. هو بابا الذي يكمل اليوم عامه السادس والخمسين.