تقروا معايا؟
"
"
في يومي التاسع والعاشر من يونية 1967 أعدنا عبد الناصر، قلنا له ارجع، نريدك، نحن بحاجة إليك، وأرجعناه، لكننا في الثامن والعشرين من سبتمبر ، رغم كثرتنا الهائلة والأكبر من المرة السابقة، لم نستطع أن نعيده، ساعتها كنت أمشي مضطربًا، عاتبًا عليه، حزينُا على رحيله، يلح عليّ أخي إلى حد أنني كنت أمد يدي قليلًا كأنه سينتبه فيمسك بها فنمشي سويًا بنفس الخطوة في الزحام. أدرك ما لم أدرك ساعتها من حجم الناس، لأن الأفلام التسجيلية التي التقطت لذلك اليوم تظهر جركة النعش الملفوف بالعلم والمسجى على عربة مدفع، سابحة في فيض الشوارع والميادين والجسور، ضاعت حدودها فتحولت إلى مكان واحد لمشهد واحد اجتمع فيه أهل البلد ليشيعوا ابنهم، وفي الوداع الأخير يغمرون نعشه، ثم يرفعونه، يطفو، يحتضونه فيغمرونه من جديد، ولكنه يعود يطفو ويطير فوق الرؤوس، لأنه راحل لا يملك البقاء.
رحل، وجدّت في غيابه أحداث كثيرة قاسية، وكثيرًا ما أتساءل إن كان الموت رحمةً يحجب تلك الأحداث عنه، أم سجنًا يتيح له أن يرى ولا يسمح له بالحركة أو حتى بالكلام؟ أتساءل إن كان يراجع نفسه وهو يتأمل حساب المكسب والخسارة، أم يحرمه الموت من نعمة البصر ويحوّله إلى رهين لمحبسين؟ وكثيرًا ما أفكّر إن كان الموت قد ثبّته في منتصف العمر كما كان لحظة رحيله، أم كبّره، كما كبر أخي، فصار شيخًا في الرابعة والثمانين من عمره، ناحل الجسم وإن احتفظ بقسمات وجهه ونظرة عينيه التي لا يخطئها أي منا، نحن الذين نشأنا وتربينا في فترة ولايته!
أعترف أنني لم أغفر له. داهمني موته وأنا مشتبك معه، أسائله بقسوة، ماذا تفعل لو داهم الموت والدك في لحظة شِجار ارتفع فيها صوتك عليه وأنت ساخط محتقن و متحفز، ثم تراه فجأة ساكنًا بين يديك؟ كان حزنًا غريبًا لم أجرّبه لا بعدها ولا قبلها، حزن صاعق مجبول بالغضب والخوف، أو بمشاعر أخرى يصعب عليّ تعيينها. ذلك على أي حال تاريخ مضى، أقصد أن السنوات لملمت تلك المشاعر، لأنها عادة ما تفعل ذلك، ولأنها تتيح مسافة وهدوءًا يسمحان بتقييم أكثر عدلًا لما حاول الرجل إنجازه في ظرفه الصعب وعمره القصير، والأهم، ربما، أنني وأنا في الخامسة والستين من عمري أملك أن أنتحل له الأعذار على طريقة الأباء، أخفض له جناح الرحمة."
رحل، وجدّت في غيابه أحداث كثيرة قاسية، وكثيرًا ما أتساءل إن كان الموت رحمةً يحجب تلك الأحداث عنه، أم سجنًا يتيح له أن يرى ولا يسمح له بالحركة أو حتى بالكلام؟ أتساءل إن كان يراجع نفسه وهو يتأمل حساب المكسب والخسارة، أم يحرمه الموت من نعمة البصر ويحوّله إلى رهين لمحبسين؟ وكثيرًا ما أفكّر إن كان الموت قد ثبّته في منتصف العمر كما كان لحظة رحيله، أم كبّره، كما كبر أخي، فصار شيخًا في الرابعة والثمانين من عمره، ناحل الجسم وإن احتفظ بقسمات وجهه ونظرة عينيه التي لا يخطئها أي منا، نحن الذين نشأنا وتربينا في فترة ولايته!
أعترف أنني لم أغفر له. داهمني موته وأنا مشتبك معه، أسائله بقسوة، ماذا تفعل لو داهم الموت والدك في لحظة شِجار ارتفع فيها صوتك عليه وأنت ساخط محتقن و متحفز، ثم تراه فجأة ساكنًا بين يديك؟ كان حزنًا غريبًا لم أجرّبه لا بعدها ولا قبلها، حزن صاعق مجبول بالغضب والخوف، أو بمشاعر أخرى يصعب عليّ تعيينها. ذلك على أي حال تاريخ مضى، أقصد أن السنوات لملمت تلك المشاعر، لأنها عادة ما تفعل ذلك، ولأنها تتيح مسافة وهدوءًا يسمحان بتقييم أكثر عدلًا لما حاول الرجل إنجازه في ظرفه الصعب وعمره القصير، والأهم، ربما، أنني وأنا في الخامسة والستين من عمري أملك أن أنتحل له الأعذار على طريقة الأباء، أخفض له جناح الرحمة."
1 comment:
انا ماحضرتش عبد الناصر لكن كل ماشفت جنازته بكيت بجد.. بكيت على ايام الكرامةوالعزة .. رغم كل شيئ بس راس المصرى كانت مرفوعة وكلمته مسموعة ..كان عندنا صناعة وزراعة وعمل واخلاص وعزيمة تهد الجبال وتبنى المجد.. ناصر العزة والكرامة والشموخ والكبرياء .. ربنا يسامحه عبدالحكيم عامر هو اللى لطخ توب عبد الناصر الابيض بسواد الهزيمة
الله يرحمك ويسامحك يا ناصر ياحبيب الملايين
Post a Comment