ثلاث ساعات من المشي وتداعي ذاكرة تُسرد بعقلي. يتبقى منها شارع طويل لا أعرفه اخترت التيه فيه، مبانِ أحبّها، مدرستي القديمة المسوّرة، شريط قطر وشمس تغيب. صوت فيروز ينبعث من كشك على ناصية شارع جانبي، ابتسامة شراء أعداد (المؤسسة) من جديد. هواء المغرب، بقايا شعارات الثورة على الجدران. أنوار الطريق الخافتة و "الست" (كلموني تاني عنك.. فكروني). وبيني و نفسي صمت محكيّ.
يُخصم من راتبي فأشتري كتبًا جديدة، وكأني (بشتري عشان أنسى) أبدأ كتابًا ولا أنهيه، أقلّب الأشياء المتناثرة في حجرتي بلا رغبة حقيقية في ترتيبها. أستلقي على فراشي، أفكّر. أبحث عن شيء يكسر مللي من الحياة، حتى لا أقول أنني أكرهها. لا يليق بواحدة مثلي أن تخبركم بكرهها الحياة، لأنني أعتبر أن ما يحدث لي طول الوقت يحدث للجميع. في خيالي دائمًا صورة شخص يشكو من الحياة باستمرار بدعوى أن المصائب تتصيّده هو وحده. هذا الشخص يمثّل (البعبع بتاعي). هذا " البعبع" تملّك مني لدرجة أنني أصبحت أخفي عن نفسي كل المواقف التي تستدعي غضبي، فلا أنفجر في وقت محدد. لم يعد يمكنني التوقف عن لوم ذاتي والتماس العذر للآخرين. يومًا ما.. هيجرى لي حاجة من كتر الكتمان والتبسط مع الحياة. وربما يكون مناسبًا الآن أن أعلن حنقي على الدنيا واكتئابي الذي يأكلني من الداخل ولا يطال الآخرين.
تقرأين وتقرأين، تسمعين ثم تقرأين، تتفقدين كل شيء، حاضرة ولستِ ظاهرة. كلما قرأتِ تشعرين بكم تفاهة التناحر في هذا العالم، تصمتين أكثر. لا تشعرين بفراغ، بل صراع لا يظهر على السطح، أشباح تروح وتغدو، ذكريات مؤلمة وأخرى مبهجة تتداخل. تحلمين بأشخاص لا تعرفينهم جيدًا. هذا الذي ذهب بكامل إرادته، مازال يمتلك جزءًا فيكِ، توجهين غضبك نحوه رغم محاولاتك لكف شعورك المدمّر عنه، لن تكفيكِ نهاية واحدة. أنا لا أعرفني تمامًا، وكلما حاولت التعرف إلي احترت، من هذه؟ وماذا تفعل هنا؟ ومن هؤلاء؟ وكيف مر من مرّ واختفى من اختفى؟ ليست قدرتنا على كسر الحُب دليلًا على هشاشة تكوينه، هناك يكمُن السر فينا. يُدرَك ولا يُحَس.
يصفني ب (مرصد التفاصيل) فأخبره أن هذا ليس جيدًا طول الوقت، الأمر يشبه نقاطًا تضيء في عقلك باستمرار، تشتتك كثيرًا، فتلتفت إلى المَنسي حد تناسي الواضح.
أحيانًا تنقلب الحياة معي إلى مشاهد فيلم، كذلك المشهد الذي تسير فيه السيارات ببطء الزحام في صفوف طويلة، وأنا في التاكسي أراقب طلابًا يعبرون الشارع، و أناسًا يركبون الميكروباصات، جنود الجيش يبدو عليهم الملل أمام بوابة الجامعة، ثم فجأة يبهت كل شيء حين تلتقط عيناي نبتة النعناع الأخضر بيدّ رجل في جانب الشارع، يحملها بأريحية.. وكأن الناس يحملون النعناع في أيديهم طوال الوقت.
لكن على أية حال، ما الذي سيتغيّر في العالم إن حمل رجل نبتة نعناع خضراء وسط زحام المدينة؟
هذا الخاطر الذي نمت به أمس، ماذا لو كنا شاهدنا الفيلم معًا؟
لم على الحياة أن تكون أكثر تعقيدًا من إمساك الأيدي وقت الغروب، أو عدّ ألوان الورد في شجر الطريق؟
هذه المباني التي أعرف، الكلية.. الشوارع الهادئة قرب المغرب، وسنوات الدراسة ورائي.
أنظر لداخلي المنهك وأنا في السيارة، ألاحظ في المرآة بؤس التعبير على وجهي.
يقول بابا مازحًا: مش تبقي تسوقي عشان تحوشي من مرتبك ونجيب لك عربية بقى.
ماذا لو لم أقدر على امتلاك سيارة أبدًا؟
ما الذي بقى، وما الذي سيبقى؟
هذا الطريق الذي أروح وأغدو عليه منذ عشرين عامًا، أنظر للأشياء التي ربما لن تكون هنا بعد عشرين سنة أخرى، وأفكّر في أشخاص لن أتذكّرهم، ولحظات ستمضي.
هنا كان طفولة وصبا وجزءٌ من شباب.. كله يمضي، قد لا تصبح هذه مدينتي بعد وقت لا أعرفه.
أين كنت وأين أصبحت؟
إلى الذي مازال يوقظني أحيانًا بصباح الخير:
لست وحدك المسافر أبدًا
يَمنَحُنا الحبُ امتلاءَ الرُّوحِ، وعندما يبدأُ موتُ الحكايةِ تَأبَى دواخلُنا الاعترافَ به، تُرَدّد صَدى صوتٍ يَخفُت كي نَظُنَ أَنّه الأصلُ، لأننا نَخَافُ ألّا تَمتَلئ أرواحُنا بعدها أبدًا.
لَكن الرُّوحُ لا تمتلئ بالحُبِ ذاته قدر امتلائِها بحميميةِ المشاركة، الجسرِ الهادئ الذي يتخطى مقدمّات البَشَر الحَذِرة، هو الطَفوُ على الحياة.. لا الغرقَ ولا الاكتفاء بالبللِ.
في يومي التاسع والعاشر من يونية 1967 أعدنا عبد الناصر، قلنا له ارجع، نريدك، نحن بحاجة إليك، وأرجعناه، لكننا في الثامن والعشرين من سبتمبر ، رغم كثرتنا الهائلة والأكبر من المرة السابقة، لم نستطع أن نعيده، ساعتها كنت أمشي مضطربًا، عاتبًا عليه، حزينُا على رحيله، يلح عليّ أخي إلى حد أنني كنت أمد يدي قليلًا كأنه سينتبه فيمسك بها فنمشي سويًا بنفس الخطوة في الزحام. أدرك ما لم أدرك ساعتها من حجم الناس، لأن الأفلام التسجيلية التي التقطت لذلك اليوم تظهر جركة النعش الملفوف بالعلم والمسجى على عربة مدفع، سابحة في فيض الشوارع والميادين والجسور، ضاعت حدودها فتحولت إلى مكان واحد لمشهد واحد اجتمع فيه أهل البلد ليشيعوا ابنهم، وفي الوداع الأخير يغمرون نعشه، ثم يرفعونه، يطفو، يحتضونه فيغمرونه من جديد، ولكنه يعود يطفو ويطير فوق الرؤوس، لأنه راحل لا يملك البقاء.
رحل، وجدّت في غيابه أحداث كثيرة قاسية، وكثيرًا ما أتساءل إن كان الموت رحمةً يحجب تلك الأحداث عنه، أم سجنًا يتيح له أن يرى ولا يسمح له بالحركة أو حتى بالكلام؟ أتساءل إن كان يراجع نفسه وهو يتأمل حساب المكسب والخسارة، أم يحرمه الموت من نعمة البصر ويحوّله إلى رهين لمحبسين؟ وكثيرًا ما أفكّر إن كان الموت قد ثبّته في منتصف العمر كما كان لحظة رحيله، أم كبّره، كما كبر أخي، فصار شيخًا في الرابعة والثمانين من عمره، ناحل الجسم وإن احتفظ بقسمات وجهه ونظرة عينيه التي لا يخطئها أي منا، نحن الذين نشأنا وتربينا في فترة ولايته!
أعترف أنني لم أغفر له. داهمني موته وأنا مشتبك معه، أسائله بقسوة، ماذا تفعل لو داهم الموت والدك في لحظة شِجار ارتفع فيها صوتك عليه وأنت ساخط محتقن و متحفز، ثم تراه فجأة ساكنًا بين يديك؟ كان حزنًا غريبًا لم أجرّبه لا بعدها ولا قبلها، حزن صاعق مجبول بالغضب والخوف، أو بمشاعر أخرى يصعب عليّ تعيينها. ذلك على أي حال تاريخ مضى، أقصد أن السنوات لملمت تلك المشاعر، لأنها عادة ما تفعل ذلك، ولأنها تتيح مسافة وهدوءًا يسمحان بتقييم أكثر عدلًا لما حاول الرجل إنجازه في ظرفه الصعب وعمره القصير، والأهم، ربما، أنني وأنا في الخامسة والستين من عمري أملك أن أنتحل له الأعذار على طريقة الأباء، أخفض له جناح الرحمة."
الصورة لإحدى المظاهرات بجوار مبنى المحافظة، المنصورة
لا أَتجنبُ الكِتابةَ عنها، بل لا أستطيع.
كان يحضرني ذلك الهاجس وأنا أمام الجزيرة أو في المظاهرة، متى سنكتب؟ أو كيف؟ أو لم؟
نكتب اللحظة أم نعيشها؟
في الرحلات كثيرًا ما يشغلنا تسجيل الحالة عن الحضور الكامل فيها، نصوّر.. نسجّل. ننسى لحظات يذكرنا بها ما سجلناه، لكن هل كنا وقتها (في الزمن) أم (مشاهدين) له؟
نحن نكتب ما نطمح إليه، ما نودّ أن نكونه.
ونحن كنا وأصبحنا..
تَرَكت ساحة مبنى المحافظة الصاخبة بكل ألوان الرفض منذ دقائق، أُفّكّر في ماما الغاضبة، وبابا الذي يقاطعني منذ نزلت التحرير .. إلى متى؟
تَضغط أصابعي أزرار الموبايل لأتابع الفيس بوك كما اعتدت. خارج نافذة السيارة البيجو التي تقلنا زحام معتاد.
أفكّر في لَيْلة هادئة وغدًا جولة جديدة من (الشعب يريد إسقاط النظام)
فجأة تكون شاشة الموبايل الدقيقة هي كل الحَدَث، تنحّى.. تنحّى، أكاد أشعر بالفرحة تقفز من لونين فقط.. الأبيض والأزرق، فيس بوك، البداية والنهاية.
تتوالى الاتصالات.. أسمع أصوات الميادين، صَخَب الانعتاق، حالة يوفوريا ممتزجة بدهشة الخلاص.
تدّب حركة غير طبيعية في السيارات المتجاورة، يعلو صوت آلات التنبيه، يخرج البعض من سياراته لا يعرف ماذا يفعل، يختنق الزحام ويتقدم جنود الجيش فجأة إلى سيارة تلو الأخرى لتَفَقُد الراحلين من المنصورة، أَقول لنفسي: أجمل زحام شهدته في حياتي!
أَضيِق بالهدوء الخانق داخل السيارة، أقول بكل الفَرح الممكن: مبارك تنحى.. تنحى يا جماعة
لا تُغَيّر السيدة بجواري التي في سن ماما من جلستها، و لا تنظر إلي وهي تقول:
وهتستفيدوا ايه لما اتنحى يعني؟ دلوقتي اسرائيل هتيجي تحتلنا!
الصورة لبحر الطنطورة، هي نفسها غلاف رواية الطنطورية لرضوى عاشور :)
قُلت يومها: " كنت بدوّر على اللي ليا فيــك." أدركتُ أن هذه ليست الجملة المناسبة حين قُلتها الأدق أنني كنت أبحث (عنّي) فيك.
أَسَرني من قبل تعبيرك " الراجل اللي انتِ منه بجد" فرغبت أن أكون مِنكَ، تمنيت. كنت أصدّق أنني ولابد تِلك المخلوقة من ضِلعك.
الصُدّف التي صَممّت بإصرار على امتزاجِ دروبِنا حد التماهي رغم المقاومة
لم تَكُن لتعترف بوَصفِك لتداخل روحينا بكلمة (بِنتي)
قَدماك الخائفتان من مٌلامسة البَحر وَقتها لم تَسمَح بأكثر.
ولم تَكُن لتَعتَرف بَوصفي للمعادلة التي أصبحت واحدًا+واحد= أرقامًا لا نهائية ب(صديقي)
خَوفي المُمتَزِج بطيْفِ أَلَم وقتَها لم يسمَح بأَكثر.
حَتى كانت (أُحِبٌـــــكَ) و (أُحِبٌــــــكِ) بَعد ذروة المُنحنى
كأن بيننا وزمننا دائمًا فرق توقيت
كَم أَخاف فرق التوقيت
أن يُصبح رَجُل حِكاياتي غريبًا عني
فيأتـــــــيني من جَديد.
أكتب رسالتي هذه وأنا أعرف أنني سأرسلها في الصباح (النت فاصل كالعادة) ولعلها تكون بداية يومك في المستشفى فلا يكون يومًا شريرًا.
وأنا كذلك متحمسة لكتابتها، حتى أنني لم أستطع الحكاية لنفسي أولًا في أوراقي. ورغم ذلك لم أرتب كلامًا بعينه ليُقال. (بعد أن كتبت ذلك حدثتك قليلًا وأنت نائم وشكلي كدة هعيد الحكاية عشان تبقى صاحي)
صباح اليوم أسلمني جوجل إلى صور قديمة للمنصورة في أوائل القرن العشرين، كانت في منتدى ما وجذبتني محاولات للأعضاء لمعرفة المباني التي في الصور وإن كانت مازالت قائمة أم لا. هناك معالم معروفة مثل مسجد (الشيخ حسانين) و(كوبري طلخا) لكن طبعًا المحيط تغير كلية. عرفت أن هناك مبانٍ لم يتم هدمها إلا مؤخرًا (في العقدين الأخيرين) وهذا يعني أنها كانت قائمة فترة طويلة جدًا. أتعرف ذلك الوميض الذي يظهر في عقلك فجأة بخصوص أشياء كنت تراها ولا تدركها؟ أدركت أنني قضيت سنوات ألفُ في دوائر مغلقة، نفس الشوارع ونفس النظرة، اجتذبتني منطقة الجامعة بحكم الدراسة والحيوية أكثر من أماكن أخرى تستحق المعرفة. و كأنني أرى المدينة ولا أعرفها!
اليوم كان ميعاد الدكتور. طبعًا كنت سأنتظر، أول ما فعلت أن وقفت في الشرفة المطلة على ميدان الشيخ حسانين أحصر المباني القديمة و أحاول تذكر الصور على قلّتها، هناك إهمال و غبار و أجزاء متهدمة لكن تفاصيل صغيرة مثل شكل النوافذ و نقوش دقيقة على الجدران كانت كافية لتريحني، كنت أقول لنفسي: هذا تاريخ لم أعرفه بعد، اتركوه لي قليلًا. ثم تمشيت في الميدان ولم أدخل الشوارع التي تتقاطع معه لأنني لم أكن أعرف إلى أين تفضي (كنت خايفة أتوه لأني فاشلة في الاتجاهات وممكن ماعرفش أرجع تاني). قررت أن أمشي في السكة الجديدة قبل أن أترك المنصورة. فأخذت تاكسي إلى ميدان المحطة.
في الطريق كنت أخاف أن يظن السائق إني سائحة ولا حاجة
كنت مشدودة إلى المباني المستترة في الشوارع الصغيرة، بل والكبيرة أيضًا.. هناك مبانٍ بارزة الوضوح والقدم في شوارع رئيسية لم أكن ألتفت إليها (مثل مبنى المجلس المحلي للمدينة)، وكما حكيت لك.. عندما وصلت إلى الميدان وبعد أن أخذت اتجاهي، نظرت نظرة خبيثة إلى المحطة وقلت لنفسي: جربي، ممكن ماتتوهيش المرة دي، فلفيت ورجعت تاني في اتجاه المحطة، أحب البهو في بدايتها، السقف العالي يشعرني إني في فيلم عربي قديم (أو في شقة مصر الجديدة.. حديثًا يعني) وخرجت إلى الجانب الآخر با(مرجح) الشنطة في ايدي، أكاد أضحك بجنون أنني أفعلها الآن وسأمشي في الشارع الهادئ الذي لم أمش فيه من 10 سنوات! وسأترك كل (الهبل) اليومي في سنين الكلية على الجانب الآخر ورائي.
مدرسة أختي (العائلة المقدسة) كما هي على ناصية الشارع أنيقة وبنفس لون السور الذي اعتدته. تغير الشارع قليلًا بالذات في بدايته. لكنه عندما يضيق وتبدأ الوِرش في الظهور تظهر معه المباني القديمة التي أعرفها جيدًا.. كنت أخاف ألا أعرف الطريق، لكني مع ذلك كنت ماشية بسرعة كأن ورايا ميعاد وعايزة أوصل.
حين ظهرت المدرسة أمامي خفق قلبي، لم يفرق معي أن لونها تغير كمارأيته وأنا أتقدم في طريقي، كنت أبحث عن التفاصيل الصغيرة التي أعرفها، الأبواب وإن تغير لونها فإني أعرفها واحدًا واحدًا، والنوافذ بنفس التفاصيل الدقيقة التي كنت أراقب منها المارة بين الحصص. حتى اللافتات الصغيرة البلهاء عن جودة التعليم كنت أبتسم لسخافتها، لا تتسق وتاريخي مع المدرسة، دائمًا كنت أشعر أنها قديمة-أو لعلها السنين بداخلي- لا تنتمي إلى كومة ترهات الحداثة في التعليم هذه.
و هناك مفارقة عنيفة في أنني أول ما تعلمت الكمبيوتر تعلمته في المدرسة وقت أن كان شيئًا غريبًا كتعليم، كنت أتعذب في التسعينات مع نظام الدوس ذي الأوامر الكثيرة، وكان ويندوز 95 إنقاذا لعقلي من حفظ الأوامر، وتعلمت بعد ذلك وورد (الذي أكتب لك به الآن) وبور بوينت قبل ان أنتقل للثانوي، كنا نتعلم هذه الأشياء ولا نمثّل أننا نتعلم وهي لم تكن إلزامية حتى.
تقول اللافتة الكبيرة: مدرسة الفرنسيسكان الخاصة للبنات-تأسست سنة 1872، تخيل! 1872.. كانت لي صديقة تحكي لي عن أيام جدتها في المدرسة، كان هذا حقيقيًا.. المدرسة كانت تتخرج منها بنات عائلات بأكملها. ويبدو كذلك أنها في البداية كانت مدرسة داخلية.
في المباني المحيطة بالمدرسة أذكر اثنين تحديدًا، واحدًا هو (المحكمة الأهلية الكلية) التي مازالت قائمة بنفس لونها وتفاصيلها، وأنا في الصف الثالث الابتدائي كان فصلي مواجهًا للمحكمة، كنا نسمع أصوات المحامين وأهالي المتهمين دائمًا(ويمكنك طبعًا أن تعرف الحكم من أصوات الأهالي) ، يبدو أن المدرسة و المحكمة كانتا مصدر الصخب الأساسي في هذا المكان الهادئ.
المبنى الثاني كان بيتًا عتيقًا تنبعث منه رائحة الملوخية تحديدًا ظهرًا (تقريبًا ماكانوش بيطبخوا غيرها) البيت كان من البيوت الوقورة عالية الأسقف منمنمة الشرفات، وكان مواجهًا لفصلي في الصف الثالث الإعدادي، فصلنا كان واسعًا لدرجة أن بالخلف مكان خال من المقاعد بنافذة كبيرة هي المطلة على البيت القديم، كنت بين الحصص أحب الوقوف بجوار النافذة لتأمل المارين ومراقبة أنشطة سكان المنزل (ومع ذلك ماكانوش بيظهروا تقريبا!)، أحيانًا كانت تتساقط كتل كبيرة من البيت في الشارع وكنت أفكر دائمًا في أن البيت لو انهار قد يكون فصلنا أول الضحايا! اليوم لم يعد البيت موجودًا، وجدت مكانه عمارة عالية لم تنته بعد.
انتابتني نشوة انتصار، وكأني انتصر على القبح الحالي في أيامي وأيام الجامعة الباهتة. وكأن كل شيء يعود لأصله. أنا أكبر وجذوري في مكانها، تتغير طفيفًا لكنها موجودة و يمكنني أن ألمسها بروحي.
عدت أدراجي والشمس تغيب، لمحت لافتة قديمة مكتوب عليها (المنصورة) تشبه اللافتات التي تراها في أفلام الأبيض والأسود، كان هناك قطار يدخل المحطة ومسافرين منتظرين. كان قلقي الأول قد اختفى وأنا أمشي في السكة الجديدة من جديد ألمح المباني التي تطل على استحياء من شوارع صغيرة لم أمش فيها من قبل عازمة على العودة (بروقان) لأستكشف قبل أن يأتي يوم تضيع فيه. وأخذت كل شيء معي في الطريق،
فتحت النافذة في الميكروباص و هواء مساء أكتوبر البارد الذي أحبه على وجهي.. كنت أفتقده، أكره أن تأخذ الامتحانات خريفي الفاتن و بعضًا من شتائي الجميل. نوفمبر هو بداية شهوري المحببة وأكتوبر مقدمتها. ديسمبر ويناير هما شهراي.. حيث برد الجو وسكون الشوارع ودفء الروح. لا تنكر أن هناك شيء فاتن في مطر الشتاء.. ينطبع في ذاكرتي يوم عودة من الكلية فيه قطرات المطر تنزلق على زجاج النافذة وصوت عبد الحليم من الراديو يغني (تخونوه) بلحنها الذي أحب. لم تمطر السماء حتى الآن ، تأخر المطر قليلًا.. لهذا لم تبدأ الفتنة بعد.
مررت به وأنا متجهة لأخر الحجرة و لم يكن مريضي، نظرت إلى جرحه الصغير الملتئم و زميلتي تغير ضماداته، ابتسمت له وقلت: سلامتك، فابتسم لي وقال: الله يسلمك..